إن أسرتنا المسلمة صورة مصغرة لمجتمعنا الإسلامي الكبير، وهي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع المؤمن.. فيها تعد معاييره ومبادئه ومثله العليا، وفي ظلها يتلقى الأطفال مشاعر الخير، وبذور الإيمان، وكلما نجح الأبوان في أداء هذا الواجب، نجح المجتمع وتمكن من الوصول إلى غاياته وأهدافه.
(ولقد دلت تجارب العلماء على ما للتربية في الأسرة من أثر عميق خطير، يتضاءل دونه أثر أية منظمة اجتماعية أخرى في تعيين الشخصيات وتشكيلها، وخاصة خلال مرحلة الطفولة المبكرة، أي السنوات الخمس أو الست الأولى من حياة الفرد.
وذلك لأسباب عدة منها: أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعًا لتأثير جماعة أخرى غير أسرته. ولأنه يكون فيها سهل التأثر سهل التشكل، شديد القابلية للإيحاء والتعليم.. قليل الخبرة، عاجزًا ضعيف الإرادة قليل الحيلة.. وتكون السنوات الأولى من حياة الطفل فترة حاسمة خطيرة في تكوين شخصيته، وتتلخص خطورتها في أن ما يغرس في أثنائها من عادات واتجاهات وعواطف ومعتقدات يصعب أو يستعصى تغييره أو استئصاله فيما بعد، ومن ثم يبقى أثرًا ملازمًا للفرد في عهد الكبر)(1).
وقبل ذلك بين رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «أنه ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه»(2)، (هذه الفطرة لو ترك الطفل من غير تأثير لما كان إلا مسلمًا، ولكن الحجب قد تحول دونها بالتوجيه للاعتقادات الباطلة)(3).
يقول ابن القيم رحمه الله: (وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبتِ إنك عققتني صغيرًا، فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا)(4).
لذا فواجب الأبوين المسلمين: رعاية الفطرة والاجتهاد في تحسين تربية أبنائهما، ولا يكفل لهما النجاة يوم الحساب إلا أن يبذلا ما في وسعهما لصلاح رعيتهما، وصيانة الفطرة من الانحراف، «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته».
وفي ظل المجتمع المسلم، يعرف كل فرد دوره ورسالته، ويتحمل مسؤوليته متطلعًا إلى ما هو خير وأبقى من الدنيا الفانية، وبالإسلام تعرف المرأة أنها ذات رسالة تؤجر عليها إن أدتها كما يريد الله سبحانه وتعالى. وهي رسالة تتناسب مع تكوينها الفطري. إنها المحضن الدافئ العطوف للأطفال.. فهي أقدر من الرجل على إرواء حاجات الطفل من المحبة والحنان وبقية حاجاته الأساسية، التي لو حرم منها الطفل لعانى الكثير من المصاعب في مستقبل حياته.
(والطفل في سنواته الأولى على الأقل يحتاج إلى أم متخصصة لا يشغلها شيء عن رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال، وأن كل أمر تقوم به خلافًا لتدبير أمور البيت، ورعاية الأطفال، إنما يتم على حساب هؤلاء الأطفال، وعلى حساب الجيل القادم من البشرية)(5).
أما لوثة انشغال الأمهات، فهي لوثة حديثة، هاجمتنا مع دعاة الغزو الفكري لتهدم بنياننا من الداخل، وتقبَّلها أتباع كل ناعق.. رغم أن العقلاء عند الأمم الغربية بدءوا يشكون من تمزق الأسرة، وتتوالى صرخاتهم من تلك الديار تشكو انشغال الآباء، وضياع الأبناء.
فماذا حصَّل المجتمع؟ ماذا لاقى الأطفال؟ بل ماذا جنت المرأة نفسها؟! لقد تحول كثير من بيوتنا إلى مسخ قاتم بدلًا من أن تكون جنة يتفيأ ظلالها جميع أفرادها. وصارت الكآبة تكلل الجميع، بعد أن أتلف العمل كنز عواطفها وجفف ينابيعه. وأنَّى يلقى المجتمع العلاقات الإنسانية النبيلة، التي وأدناها يوم أن عملت المرأة، وتركت الأطفال يعيشون في أجواء يفقد فيها الحنان والحب والاستقرار.
فالتعب والكدح قد أثقل كاهلها واستقطبا وقتها، فحرمها من رحابة الصدر التي تعينها في توجيه أطفالها ومداعبتهم، وأصبحت موزعة العواطف مشتتة الجهود، لا تجد وقتًا تخلو فيه لحاجاتها الضرورية، بل الراحة والاستقرار، وإذا أكدنا على أهمية المرأة، ذلك لأن الطفل أكثر التصاقًا بها في سنوات العمر الأولى لحاجته الماسة إليها.
إلا أن الأسرة ليست أمومة فحسب، وإنما يكمل كل من الزوجين الآخر ولكل دوره. والمرأة والرجل قطبا الإنسانية- كما يقول مالك بن نبي رحمه الله(6)، فالرجل بما يوفر لزوجته من سكن نفسي وطمأنينة وتأمين الكسب الذي يكفل لها ولأبنائها الحياة الكريمة لتؤدي مهمتها باطمئنان.
وكلا الزوجين بلغة العصر الجندي المجهول الذي يربي الأجيال، أو بالأحرى من الأخفياء الأتقياء، يتعاونان في إعداد شباب المستقبل وأمهاته، رغبة في الأجر واحتسابًا لما عند الله بعيدًا عن الظهور والمجاراة، وطمعًا بثواب صدقة مستمرة تبقى إلى ما بعد الموت.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(7).
أما وقد أصبحت العادة في بعض البيوت أن تتنازل الأم عن دورها، فتوكل إلى الخادمة أمر أطفالها، إطعامًا ورعاية، بل توجيهًا وتربية، فذلك ضريبة أخرى تدفعها الأسر بدل عمل المرأة، وإن كان الأمر لا يخلو من حالات أخرى تسند فيها الأم أعمالها إلى الخادمة، ولعل من أسباب وجود هذه الظاهرة:
1- كسل الأمهات.
2- التهرب من المسئولية.
3- التباهي في الرفاه والمظاهر الكاذبة، والأنفة من القيام بواجباتهن الأسرية.
والسبب الأصيل لكل ذلك هو: البعد عن التصور الحقيقي للإسلام. وتكون الطامة الكبرى عند استقدام الخادمة- الأجنبية الكافرة- فهي تنقل عادات قومها وقيمهم إلى أبناء أسرنا بسبب تأثيرها المباشر عليهم.
وأصبح كثير من بيوتنا فيه خلط عجيب من الأخلاق والعادات والتقاليد. والواقع المحسوس يأتي بالمضحكات المبكيات.
إن الرقي الحضاري لا يكمن في تأمين الرفاه وتوفير الخدم، وإنما هو نتاج تربية واعية مدروسة، لا تقدر عليها الخادمة، وهي أمية غالبًا، وقد تكون على دين يخالف ديننا.
والأب الأناني الذي تخلى عن واجبه الأسري دونما سبب ذي بال إلا أن يلهو مع أقرانه، أو يشتغل بتنمية ماله.. فعهد إلى السائق أو الخادم أن يقوم بدور الأب، هو الموجه وهو صاحب السلطان.
وهكذا.. أصبح كثير من الأطفال- صانعي المستقبل- لا ارتباط حقيقي لهم بدينهم ولا بأسرهم، بسبب هذا الوباء الذي عم كثيرًا من الآباء والأمهات: الانهزامية والتهرب من المسئولية.
فيا أختي المسلمة: لا اعتراض على وجود الخادمة، إن كنت بحاجة إليها، ولا تنسي أن لها مهمتها ولك مهمتك، فلا تتنازلي لها راضية عن عملك أُمًّا مربية لأطفالك وهذا أخص خصائصك.. ساعدي ابنك على البر بك.
إن الحنان الذي يرافق إطعامك لطفلك، والبسمة التي تشجعه إذا أصاب، والنظرة العاتبة التي ترده إلى جادة الصواب إن أخطأ.. كل ذلك له الأثر الذي لا يمحى من ذاكرة الطفل.
وأنت أيها الأب الكريم: ليسع عطفك ابنك، وهذا هو خير عطاء تمنحه إياه، إن دخولك المنزل تحمل الأغراض التي ساعدك بشرائها الخادم، وتقدمها بيديك لزوجتك وأولادك لا يعوض عملك هذا ملء البيت ألعابًا وتحفًا وملابس وحلوى يباشر تقديمها لهم الخادم. والله أسأل أن يوفق أسرنا المسلمة إلى التربية البناءة الواعية.
-----------------------
1- أصول علم النفس د. أحمد عزت راجح ص426، والتربية في الإسلام للأهوان ص 130.
2- متفق عليه.
3- الفتاوى لابن تيمية4/ 247.
4- تحفة المودود لابن القيم ص139.
5- منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب 2/ 108.
6- شروط النهضة / 116.
7- أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم في صحيحه [صحيح الجامع الصغير (1/ 199].
الكاتب: خولة درويش.
المصدر: موقع صيد الفوائد.